اتفاق وقف إطلاق النار- فرصة ذهبية لحل الدولة الواحدة؟

المؤلف: محمود عبد الهادي08.18.2025
اتفاق وقف إطلاق النار- فرصة ذهبية لحل الدولة الواحدة؟

بعد انقضاء عشرة أيام على اتفاق الهدنة المشروطة بين المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزة والكيان الصهيوني الغاشم، لم نرَ حتى الآن أي تحرك جاد وفاعل من قبل القيادات الفلسطينية، يهدف إلى استثمار النتائج الإيجابية لمعركة "سيف القدس"، والتوصل إلى مشروع سياسي جامع وموحد. هذا المشروع يجب أن يكون قادراً على إيجاد حل جذري ونهائي للقضية الفلسطينية العادلة، حلاً يضع حداً لمعاناة الشعب الفلسطيني الصامد، ويحقق تطلعاته المشروعة وآماله العريضة في الحرية والاستقلال. هذا التأخير غير المبرر يضيع فرصة ثمينة وذهبية متاحة حالياً للتخلص من وهم "حل الدولتين" المفروض، والعمل الجاد على فرض حل "الدولة الواحدة" على الكيان الصهيوني والدول الغربية الداعمة له. فهل تسارع القوى والفصائل الفلسطينية خطاها الحثيثة باتجاه هذا الحل العادل حتى لا تذهب التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني هباءً منثوراً، وتعود دورة المواجهة من جديد دون تحقيق أي جدوى حقيقية وملموسة؟

 

من الأهمية بمكان امتلاك المقاومة الفلسطينية الباسلة للقوة العسكرية الرادعة وتطويرها المستمر وتعزيزها الدائم، ولكن هذه القوة العسكرية ليست هدفاً في حد ذاتها، بل هي وسيلة ضرورية لدعم مشروع سياسي واقعي وعقلاني تتبناه القوى الفلسطينية المخلصة في الداخل والخارج لحل القضية الفلسطينية، مشروع يكون قابلاً للتحقيق على أرض الواقع في مدى زمني معقول ومحدد، وقادراً على وقف نزيف معاناة الشعب الفلسطيني وتحقيق آماله المشروعة وتطلعاته النبيلة، وهذا لا يتحقق في السياق الراهن إلا في حل "الدولة الواحدة" الذي يضمن حقوق الجميع.

كنت أتوقع أن تكون الأيام العشرة الماضية بنفس القدر من الأهمية كأيام المواجهة البطولية مع الكيان الصهيوني الغاصب في معركة "سيف القدس"، وكنت أتوقع أن تكون هذه الأيام حافلة بالتحرك الفلسطيني-الفلسطيني المكثف داخلياً وخارجياً، في تصعيد غير مسبوق للانتفاضة الشعبية العارمة داخل فلسطين وخارجها، ضد الاحتلال البغيض وضد السلطة الفلسطينية المترددة وضد اتفاقيات الذل والإذعان المهينة وضد الانقسام المرير الذي يمزق الصف الفلسطيني، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث على أرض الواقع! فهل هناك تحضيرات جادة لذلك تجري على قدم وساق أم أن الواقع الحزبي والفصائلي المشتت للقوى الفلسطينية وارتباطاتها المعقدة الداخلية والخارجية تحول دون تحقيق ذلك؟

معركة سيف القدس من منظور آخر

تحدثنا في المقالات السابقة بشيء من التفصيل عن جوانب الاختلاف الجوهرية لمعركة القدس عن غيرها من المواجهات المتكررة التي خاضتها المقاومة الفلسطينية الباسلة في قطاع غزة المحاصر في المرات السابقة، وتناولنا بعمق دلالات ذلك، والنتائج المترتبة عليه، وقد عاش الشارع الفلسطيني الصامد بخاصة والشارع العربي والإسلامي عموماً في معظم دول العالم أياماً حافلة بالعواطف الجياشة والمشاعر الفياضة والانفعالات الحارة اعتزازاً وفخراً بما حققته معركة القدس من انتصارات، حتى إن بعضهم صار حاله كأنه على مرمى حجر من أبواب القدس، وأن سقوط الكيان الصهيوني وزوال دولته بات وشيكاً وقريباً، وأن أيامه أصبحت معدودة على أصابع اليد، وأن العالم المتمدين سيدير ظهره له ويتخلى عنه ويتركه يواجه مصيره المحتوم مع جحافل المقاومة الفلسطينية الغاضبة دون أن يأسى عليه، وقد استلهم الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي المؤمن في ذلك العديد من النصوص القرآنية المحكمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وتوقعات بعض القادة والمفكرين الاستراتيجيين، وما صاحب المعركة من تعاطف دولي شعبي ونخبوي كبير ومؤثر مع الشعب الفلسطيني المظلوم وقضيته العادلة، الأمر الذي عزز إحساسه المتزايد بقرب نهاية دولة الكيان الصهيوني الزائل وتحرير فلسطين كاملة. وربما كان للشعب الفلسطيني المناضل بخاصة والشعوب العربية والإسلامية عموماً شيء من العذر المقبول في هذه المشاعر الجارفة والانفعالات الصادقة التي واكبت لحظات انتصار جزئية استثنائية عابرة لطالما غيّبتها عنهم أنظمة الحكم المستبدة المهزومة. ومع ذلك فإن هذا ينبغي ألا ينسينا جملة من الحقائق المرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية العادلة والصراع المرير مع الكيان الصهيوني الغاصب، وفي مقدمتها:

  • أن نشأة الكيان الصهيوني في أصلها كانت نشأة استعمارية غربية بامتياز، وأن الدور الوظيفي لهذا الكيان ما زال قائماً ومستمراً لمصلحة الدول الغربية الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وأنها لن تتخلى عنه أبداً، ولا عن الدور الخبيث الذي يقوم به لخدمة مصالحها.
  • أن الكيان الصهيوني الغاصب لا يحسب حساباً لأي قرارات تصدر عن المؤسسات الدولية الهزيلة، ولم ينفذ منها شيئاً حتى الآن، وأن الفيتو الأميركي المشؤوم يمثل غطاء وحماية متواصلة له ضد أي قرار دولي ملزم.
  • أن الترسانة العسكرية للكيان الصهيوني تتفوق بشكل كبير على الترسانات العسكرية للدول العربية مجتمعة، وأن ما تملكه المقاومة الفلسطينية الباسلة من أسلحة متواضعة لا يذكر أمام هذه الترسانة الضخمة.
  • أن الكيان الصهيوني المجرم قادر على اجتياح قطاع غزة المحاصر، وتدميره عن بكرة أبيه، وإجبار المقاومة الفلسطينية الصامدة على الخروج من أنفاقها والنزوح من قطاع غزة، دون أن يعترض طريقه أحد لا على المستوى العربي ولا الإسلامي ولا الدولي بأكثر من الإدانة الخجولة واللوم البارد والاستنكار الشكلي.
  • أن الكيان الصهيوني الحقير أوقف الهجوم الشرس على قطاع غزة دون شروط تذكر، لأسباب سياسية داخلية بحتة، وليس بسبب هزيمته العسكرية النكراء -كما يسميها البعض- تحت وابل صواريخ المقاومة الفلسطينية، بغض النظر عن هذه الأسباب السياسية المعلنة والخفية.
  • أن رأس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على وجه الخصوص مطلوب منذ سنوات عديدة للسلطة الفلسطينية (مع الأسف الشديد)، ولعدد من الدول العربية والغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وأن هذه الدول تبذل جهوداً مضنية وكبيرة من تحت الطاولة ومن فوقها، للتخلص من حركة "حماس" بأي ثمن ممكن.

هذه الأسباب الموضوعية وغيرها الكثير لا ينبغي أن تغيب عن البال عند التعامل مع نتائج المواجهات المسلحة المتكررة مع الكيان الصهيوني الغاصب، حتى لا نذهب بعيداً في فهمنا لطبيعة الصراع المرير مع الكيان الصهيوني، والدور المحوري للمقاومة الفلسطينية الباسلة في هذا الصراع الوجودي.

وأن يخلو من أي إجراءات رخوة أو مراوِغة أو إسعافية أو غير واقعية، فإن ذلك سيجعل المشروع مجرد وسيلة لإطالة أمد الصراع الدموي وزيادة جولات الحرب العبثية، واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني المظلوم.

القضية الفلسطينية بين المسارين السياسي والعسكري

امتلاك القوة شيء، والهيمنة المطلقة للقوة شيء آخر تماماً، وامتلاك القوة شيء، وإدارة القوة الرشيدة شيء آخر مختلف. انهار الاتحاد السوفياتي المنهار وهو الدولة الثانية كبرا في العالم، وكان يمتلك من القوة العسكرية ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية مرات عدة، وامتلك أدولف هتلر القوة الغاشمة، ولكنه انهزم شرّ هزيمة أمام قوات الحلفاء لأنه كان يحمل مشروعاً مستحيلاً وغير قابل للتحقيق على أرض الواقع، وامتلك الرئيس المصري الراحل أنور السادات القوة العسكرية وحقق انتصاراً جزئياً على الكيان الصهيوني الغاصب عام 1973م انتهى بتوقيع اتفاقية سلام مشؤومة معه أدخلت المنطقة العربية في دوامة لا نهاية لها من الفوضى العارمة لم تخرج منها حتى اليوم، وامتلكت الصين الشعبية القوة العسكرية والاقتصادية ولكنها تحارب خصومها سياسياً واقتصادياً وصناعياً وتجارياً، وخسرت اليابان الحرب العالمية الثانية وفقدت قوتها العسكرية ولكنها تفوقت اقتصادياً وتكنولوجياً، وكسبت الأغلبية السوداء المعركة في جنوب أفريقيا العنصرية وتحررت من نظام الفصل العنصري البغيض ذي الأقلية البيضاء المتغطرسة دون قوة عسكرية تذكر، ولكن بالإرادة الصلبة والتصميم الراسخ والرؤية الواضحة المحددة.. أمثلة كثيرة ومتنوعة توضح لنا بجلاء أهمية امتلاك القوة العسكرية الضرورية لتأمين الكيانات السياسية وشعوبها المستضعفة وحماية قراراتها المصيرية وخططها التنموية الطموحة والتقدمية، ولكنها قطعاً ليست الضامن الوحيد والأوحد للنصر الحاسم والاستقرار الدائم، وأما هيمنة القوة وبطشها وظلمها وعدوانها، أو سوء إدارتها المتعجرفة والتصرف بها بطيش ورعونة، فإنه يجلب الويلات والنكبات، ويطغى على الرؤية السياسية الثاقبة ومشروعاتها الوطنية.

من الأهمية بمكان امتلاك المقاومة الفلسطينية الباسلة للقوة العسكرية الرادعة وتطويرها المستمر وتعزيزها الدائم، ولكن هذه القوة العسكرية ليست هدفاً في حد ذاتها، بل هي وسيلة ضرورية لدعم مشروع سياسي واقعي وعقلاني تتبناه القوى الفلسطينية المخلصة في الداخل والخارج من أجل إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، مشروع يكون قابلاً للتحقيق على أرض الواقع في مدى زمني معقول ومحدد، وقادراً على وقف نزيف معاناة الشعب الفلسطيني وتحقيق آماله المشروعة وتطلعاته النبيلة، وهذا لا يتحقق في السياق الراهن إلا في حل "الدولة الواحدة" الذي يضمن حقوق الجميع ويوفر الأمن والاستقرار للجميع على حد سواء.

ومن المثير للدهشة والاستغراب أن نجد الشعب الفلسطيني الذي يعدّ من أكثر شعوب العالم تعلّماً وثقافة وخبرة وأقساها تجربة مريرة، أن نجده وقيادته السياسية يسيرون حتى اليوم في خضم معاناتهم المستمرة دون مشروع سياسي واضح المعالم، وأن نجد القوة العسكرية والأمنية هي المهيمنة على المشهد الفلسطيني برمته، والمتحكمة في سير الأحداث وتحديد المواقف السياسية، بدلاً من أن ترجع خطوة إلى الوراء، وتتخندق في مواقعها الأصلية على أهبة الاستعداد لأي طارئ.

الفرصة السانحة

ذكرت في مقالي السابق بوضوح أن القضية الفلسطينية عرفت 3 مشروعات سياسية للحل، مشروع "الدولة الواحدة" المرفوض غربياً وصهيونياً بشكل قاطع، ومشروع "الدولتين" المستحيل التحقيق على أرض الواقع، ومشروع "التحرير الشامل" لكامل فلسطين التاريخية وهو الأكثر استحالة على الإطلاق، وأؤكد في هذا المقال ما ذهبت إليه من أن النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها معركة "سيف القدس" قد أتاحت فرصة ذهبية للشعب الفلسطيني الصامد وقيادته السياسية المترددة لتبنّي "حل الدولة الواحدة" كخيار استراتيجي وحيد، والتخلي عن جميع الحلول الأخرى الوهمية وغير الواقعية، ولكن المخيب للآمال والطموحات بعد أن انطلقت الجولات السياسية المكوكية بين واشنطن والكيان الصهيوني والقاهرة ورام الله وغزة لتثبيت وقف إطلاق النار وتمديد الهدنة الهشة، وإعادة إعمار ما دمره الكيان الصهيوني الغاشم في قطاع غزة المحاصر، أن نرى الأحداث تسير متتابعة لتعيد دورتها السابقة المأساوية التي مرّت علينا في الأعوام 2008م و2012م و2014م، وأن نجد القيادة الفلسطينية المنقسمة في كل من الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر تتنقلان بين "الحل المستحيل" و"الحل الأكثر استحالة" دون كلل أو ملل.

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة